يقول سبط المارديني في ذلك: "العلاج لاشيء كالوصال لمن يتهيأ على الوجه الشرعي، وإلا أهين وقبح بفعله، وإشغاله ببعض العلوم العقلية ومجالس أهل الفضل ثم استفراغ بعض السوداء. ويكثر من صب الماء على الرأس. ويطعم البطيخ والقثاء والبقلة، ويسقى الرايب الحامض، ويؤمر أن ينام تحت الندى. وذكروا أن النظر إلى القمر عند امتلائه يمنع هذا المرض. وينصح بكثرة الاغتسال بالماء البارد أيضا. ولا يعطى الأشياء الحارة من الأدوية والأغذية والأهوية(12)".
مما سبق يمكن أن نذكر مقومات علاج مرض العشق على النحو التالي:
أولا- محاولة الجمع بين العاشق والمعشوق بالزواج إن أمكن، وفي ذلك يقول ابن هبل البغدادي: "العلاج لاشيء أنفع من الجمع بين العاشق ومعشوقه على وجه تبيحه الشريعة، فإنه يصلح ويبرأ. وإن لم يكن فالنظر من بعيد، وإلا فالتسويف(13)".
ويوضح ابن سينا هذه الحقيقة بقوله: "ثم إن لم تجد علاجا إلا تدبير الجمع بينهما على نحو يبيحه الدين والشريعة فعلت، وقد رأينا من عاودته السلامة والقوة، وعاد إلى لحمه. وكان قد بلغ الذبول وجاوزه، وقاسى الأمراض الصعبة المزمنة والحميات الطويلة بسبب ضعف القوة لشدة العشق. ولما أحس بوصل من معشوقه بعد مطل معاودة في أقصر مدة قضينا به العجب، واستدللنا على طاعة الطبيعة لأوهام النفس(14)".
ثانيا- نصح العاشق وتعنيفه على أفعاله إذا كان من العقلاء. يقول ابن سينا أيضا: "وإن كان العاشق من العقلاء فإن النصيحة والعظة له والاستهزاء به وتعنيفه والتصوير لديه أن ما به إنما هو وسوسة وضرب من الجنون، مما ينفع نفعه، فإن الكلام ناجع في مثل هذا الباب(15)".
ثالثا- إشغال العاشق ببعض العلوم العقلية ومجالس أهل الفضل، أو إشغاله ببعض الأمور الدنيوية الأخرى التي تصرف تفكير العشق عن كثرة التفكير بمعشوقه. وقد تفنن الأطباء العرب في هذا المجال بابتكار الوسائل التي من شأنها أن تحقق هذا الغرض. فمن هذه الأمور ذكروا:
1-إشغال المريض ببعض العلوم العقلية ومجالس أهل الفضل، وذلك إذا كان ممن عنده الاستعداد لذلك. وإذا كان من المتدينين فيمكن تسليته بأخبار الزهاد والعباد والمساكين.
2- إذا كان العاشق صاحب صنعة أو عمل أو شغل ألزم بعمله أو شغله فلا شيء أضر عليه من البطالة والفراغ.
3- طول السفر عن مكان إقامة المعشوق، حيث أن ذلك مما يولد النسيان مع مرور الزمن.
4- ذكر بعض الأطباء –كابن سينا- أنه من الناس يسليه الطرب والسماع، ومنهم من يزيد ذلك من غرامه، ويمكن أن يتعرف ذلك.
5- مما ينفع هؤلاء أيضا مجالس السرور واللهو والفرح، والتنزه وكثرة النظر إلى القمر. وهذه كلها اعتبرت من الأمور التي تصرف تفكير العاشق عن معشوقه.
رابعا- إفراغ المرة السوداء من الجسم والقضاء على مفاعلاتها السلبية في الجسد، وذلك بالتجفيف والتبريد. لذلك نصح الرازي بكثرة الاغتسال بالماء البارد، وحذّر من الأشياء الحارة من الأدوية والأغذية. وكذلك نصح بالنوم في الأماكن الباردة.
خامسا- الميل لتناول بعض الأغذية التي لها صفة التبريد مثل الرايب الحامض والبطيخ والقثاء والبقلة وغيرها من الأطعمة التي تساعد على استفراغ المرة السوداء وبالتالي تحقق غاية التبريد.
سادسا- أخيرا فقد نصح بعض الأطباء لمعالجة هذا المرض بأن تسلط بعض العجائز على العاشق، بحيث يجتهدن في أن ينقلن هوى العاشق إلى غير ذلك المعشوق بالتدريج، ثم يقطعن صنيعهن قبل أن يتمكن الهوى الثاني.
مرض العشق والطب الحديث:
في نهاية هذا البحث لابد لي من أن أشير إلى مرض العشق من الوجهة الطبية الحديثة. فقد يتساءل البعض لماذا لا تبحث المؤلفات الطبية الحديثة ولاسيما كتب الطب النفسي ما سمي قديما بمرض العشق؟
للجواب على ذلك لابد لنا أن نعلم أن مرض العشق يمكن أن نعبر عنه حاليا على أنه شكل من أشكال الشدة العاطفية Emotional stress التي يخضع لها المريض. وهذه الشدة العاطفية وبحسب درجاتها قد ينجم عنها مرضيات نفسية مختلفة وذلك حسب شخصية المريض وخلفيته الاجتماعية وظروفه المحيطة به، فضلا عن استعداده الشخصي. فبعض الذين يخضعون لشدة عاطفية شديدة قد يصابون بعصاب القلق Anxiety neurosis، ومنهم من يصاب بحالة الإرتكاس الهمودي Reactive depression ، كما قد يصاب بعض المرضى الذين عندهم أصلا شخصية شبه فصامية بحالات فصام Schizophrenia صريحة، كما هو الحال في الفصام الشبابي أو ما يسمى بفصام المراهقة. من ذلك نستنتج أن ما كان يعرف بمرض العشق هو عبارة عن أحد أشكال الشدة العاطفية التي قد تؤدي لحدوث اضطرابات نفسية خطيرة يمكن لها أن تؤدي في بعض الأحيان لحدوث خطر الانتحار، وخاصة عند الذين أصيبوا بحالة الهمود الإرتكاسي.
الحواشي والتعليقات:
* طبيب اختصاصي في الجراحة العظمية – دكتوراه في تاريخ الطب العربي الإسلامي
مدرس في معهد التراث العلمي العربي – جامعة حلب، ص ب 7581، حلب – سوريا.
(1) الآسي هو الطبيب.
(2) السوداء: مرض الهمود أو الكآبة.
(3) قلة الفهم.
(4) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 51-52.
(5) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 131.
(6) السوداوية هي الميل للحزن أو الكآبة.
(7) القانون في الطب، ج2، ص71-72.
(
المختارات في الطب، ج3، ص49.
(9) مخطوطة الرسالة الشهابية في الصناعة الطبية، لسبط المارديني، ورقة 45.
(10) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 458-459.
(11) القانون في الطب، ج2، ص72.
(12) مخطوطة الرسالة الشهابية في الصناعة الطبية، ورقة 54.
(13) المختارات في الطب، ج3، ص50.
(14) القانون في الطب، ج2، ص72.
(15) القانون في الطب، ج2، ص72.
هههههههههه